لماذا كان الأوربيون قديماً يضعون طيور الكناري في هذه الصناديق الغريبة؟
لماذا كان الأوربيون قديماً يضعون طيور الكناري في هذه الصناديق الغريبة؟
في متحف العلوم بـ(ساوث كيسينغتون) في لندن, يوجد جهاز صغير ملفت للانتباه يبدو وكأنه عبارة عن غرفة صغيرة لإنهاء حياة طيور الكناري بالغاز.
فلماذا كان الأوربيون يجمعون طيورا الكناري ثم ينهون حياتها بهذه الطريقة الغريبة؟
بداية القصة
كان عمّال التنقيب في مناجم الفحم قبل ثلاثين سنة من الآن يتوجهون لممارسة مهماتهم اليومية داخل المناجم مصطحبين طيور الكناري معهم داخل الغرف الزجاجية مثل تلك في الصورة أعلاه.
قد تحتوي المناجم تحت الأرض على الكثير من الغازات السامة والمميتة على غرار غاز أول أكسيد الكاربون الذي يتشكل خلال حوادث متنوعة على شاكلة نشوب حريق أو حدوث انفجار.
ويعتبر هذا الغاز، الذي لا رائحة ولا لون له، مميتا جدا بالنسبة لكل من طيور الكناري والبشر على حد سواء، لكن ما يميز طيور الكناري عن البشر في هذه الحالة هو أنها معرضة بشكل أكبر لخطورة هذا الغاز.
ومنه فهي تظهر ردات فعل سريعة ومرئية استجابة لتعرضها له مقارنة بالبشر، ولهذا يصطحبها عمال المناجم معهم داخل المناجم من أجل إنذارهم في حالة حدوث تسرب غاز مميت.. فهل كانت طيور الكناري تموت في كل مرة؟
كيف يتم ذلك؟
عندما يقع حادث في منجم ما، ينزل عمال الإنقاذ والإغاثة إلى داخل المنجم مصطحبين معهم طيور الكناري في أجهزة الإنعاش السابقة ذكرها، فيحتوي الصندوق المكون من المعدن والزجاج على باب صغير دائري الشكل في الواجهة يكون مفتوحا من أجل السماح للهواء الخارجي بالدخول إلى الصندوق.
كما يغطي الفتحةَ في نفس الوقت سياج صغير يعمل كحاجز لمنع الطائر من الخروج والهرب، وفي حالة وجود غاز أول أكسيد الكاربون في الجو، يبدأ طائر الكناري بإظهار أعراض التعرض له عبر التأرجح بشكل ملفت داخل العلبة ثم السقوط على أرضيتها في نهاية المطاف، وهنا يقوم العامل بإغلاق باب الفتحة التي تسمح للهواء بالدخول ثم يفتح صمام الأسطوانة التي تحتوي على الأكسجين الذي ينفذ إلى داخل الصندوق وينعش الطائر ويعيده للحياة، ثم يقوم عمال المناجم بإخلاء منطقة الخطر تلك.
أحد عمال المناجم يحمل جهاز إنعاش الكناري – صورة: Fionn Taylor
اقترحت فكرة استعمال طيور الكناري للكشف عن تسربات الغازات السامة والمميتة أول مرة من طرف خبير الفيزيولوجيا الإسكتلندي (جون سكوت هالداين) John Scott Haldane المولود سنة 1860، الذي اشتهر باكتشافه لفيزيولوجيا التنفس وطبيعة الغازات وآثارها على الجسم البشري.
كان (هالداين) يحتجز نفسه داخل غرف محكمة الإغلاق ويعرض نفسه لكوكتيلات متنوعة من الغازات القاتلة، بينما يدوّن ملاحظات يسجل فيها تجربته وهو يتعرض للتسمم ببطء وكيف يبدو عليه الأمر.
خلال الحرب العالمية الأولى، تنقل (هالداين) إلى الجبهات الأمامية مع الجنود من أجل تحديد الغاز السام القاتل الذي استخدمه الألمان، ومنه اخترع أول قناع مضاد للغازات السامة في العالم. أجرى (هالداين) كذلك العديد من التحقيقات في الكوارث التي تحدث داخل المناجم، واكتشف بأن غاز أول أكسيد الكاربون كان مركّبا قاتلا جدا تسبب في هلاك معظم العمال بعد أن لاحظ أن جثثهم جميعا احتوت على بقع زهرية اللون نتيجة مركّب يتشكل في الدم عندما يتحد أول أكسيد الكاربون مع الهيموغلوبين.
في بدايات تجاربه أواخر تسعينات القرن التاسع عشر، أجرى (هالداين) التجارب على الحيوانات الصغيرة مثل الفئران البيضاء وطيور الكناري، ووقع اختياره على هذه الفئة من الحيوانات الصغيرة بالذات لأنها كانت تتمتع بنظام استقلاب أسرع من ذلك لدى البشر –أي أنها تحرق السعرات الحرارية بشكل أسرع منا نحن البشر– ومنه كانت تُظهر أعراض التعرض لغاز أول أكسيد الكاربون بشكل أبكر حتى مع وجود كميات قليلة جدا منه، وكانت طيور الكناري الأفضل بين هذه الحيوانات في هذا المجال بشكل خاص بفضل جهازها التنفسي المميز.
تماما مثل جميع الطيور، تتمتع طيور الكناري بجهاز تنفسي معقد جدا تطور ليجمع أكبر قدر ممكن من الأكسجين في الجو، وتعتبر هذه الخاصية مهمة جدا بالنسبة للطيور لأن عملية التحليق تتطلب الكثير من الطاقة، كما أن الطيور غالبا ما تطير على ارتفاعات شاهقة حيث توجد كميات قليلة جدا من الأكسجين.
مخطط يظهر الفرق بين الجهاز التنفسي عند البشر والطيور – صورة: Eleanor Lutz
عند الشهيق، يأخذ الطائر كمية كبيرة من الهواء مقارنة بحجمه –يبلغ حجم النظام التنفسي الخاص بالطيور 20 بالمائة من حجمها الكلي مقارنة بالنظام التنفسي لدينا نحن البشر الذي يشكل نسبة 5 بالمائة من أجسامنا–، يتم تخزين بعض من الهواء المتحصل عليه عند الشهيق في مساحات فارغة صغيرة يطلق عليها اسم ”الجيوب الهوائية“ التي تتوزع في جميع أنحاء جسم الطائر، أما بقية الهواء المستنشق فيتم توجيهه إلى الرئتين حيث يتم استبدال الأكسجين بثاني أكسيد الكاربون.
وعند الزفير، يدخل الهواء المخزن في الجيوب الهوائية في جسم الطائر إلى الرئتين حيث يتم استبدال ثاني أكسيد الكاربون بالأكسجين كذلك، لذا فإن الطيور تتنفس الأكسجين بصورة دائمة سواء في الشهيق أو الزفير، مما يجعلها في قمة التفوق عندما يتعلق الأمر باستنشاق الأكسجين، ويجلعها كذلك أكثر عرضة للمخاطر في حالة وجود غازات سامة في الجو.
تم منع استخدام طيور الكناري في المناجم بصورة رسمية في سنة 1986 في بريطانيا، واعتبر ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، وقبل صدور هذا القانون بقليل، كان العمال في المناجم يستخدمون حوالي مائتي طائر كاناري ككاشفات عن الغازات السامة. استبدلت بعد ذلك هذه الطيور بأجهزة إلكترونية أرخص ثمنا، وأكثر فعالية، وأكثر إنسانية كذلك.