شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، أحد أبرز العلماء المسلمين بين القرنين السابع والثامن الهجريين، عُرف بسعة علمه في فنون الشريعة والعربية، وتنوع معارفه الفكرية والنقدية، وكثرة تصانيفه في مختلف العلوم السائدة في عصره.
وقد اشتهر بجرأته في الصدع بما آمن به، فكان أن حمل السلاح في مواجهة التتار، وناظر خصومه حتى تداعى عليه أرباب الفرق والملل، فألبوا عليه حكام زمانه وسلاطينه، فزُجّ به في السجن مرات، توفي في آخرها سنة 728 هـ/1328م.
ولد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية يوم 10 ربيع الأول 661 هـ/1263م في مدينة حرّان الواقعة اليوم جنوبي تركيا، وقد اضطرت عائلته للنزوح منها إلى الشام سنة 667 هـ، هربا من هجمات التتار الزاحفة من الشرق صوب بلادهم سالبة منها الأمان والطمأنينة والاستقرار.
نشأ ابن تيمية في ظل أسرة لها شأن في العلم والسياسة، إذ كان والده شهاب الدين عبد الحليم أحد علماء حران المشهورين، وما إن وطئت قدماه دمشق حتى ذاع فضله واشتهر أمره، فكان له كرسي للتدريس والوعظ في مسجدها الكبير، وتولى إضافة إلى ذلك مشيخة دار الحديث السكرية.
وتعود نسبته إلى جده الأعلى كما يقول الإمام شمس الدين الذهبي (ت: 748هـ) في ذيل تاريخ الإسلام، وجده هذا هو محمد بن الخضر، وقد روى تلميذ شيخ الإسلام محمد بن عبد الهادي وكاتب أوسع سيرة له أن جده هذا كان في طريقه إلى الحج وله امرأة حامل، فرآى في تيماء طفلة، فلما عاد إلى حران وجد امرأته قد ولدت بنتا، فلما رآها قال: يا تيمية، يا تيمية! فلقب بذلك وسرى هذا اللقب في نسله.
وقد وصف الذهبي -وهو المحدث والمؤرخ المعاصر لابن تيمية- الشيخَ عبد الحليم بأنه كان حاكم حران وشيخها، مما يشي باهتمام خاص بشؤون السياسة والحياة العامة.
عُرف من الأعلام في عائلته غير والده: جده مجد الدين أبو البركات عبد السلام، وكان فقيها حنبليا ومحدثا وعالما باللغة العربية، وعمته ست الدار بنت عبد السلام، وكان ابن أخيها أحمد بن عبد الحليم قد قرأ عليها شيئا من العلم، وأخوه شرف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحليم.
وكان لوالدته ست النعم بنت عبد الرحمن الحرانية فضل كبير عليه، حيث نذرته مبكرا لخدمة العلم وتحصيله، وقد تركت في نفسه أبلغ الأثر بسبب حدبها وعطفها عليه، وتدل على ذلك الرسائل التي كان يرسلها إليها في أثناء مقامه بمصر بين عامي 705 و712 هـ.
عرف عن ابن تيمية في صباه قوة حفظه وسعة ذاكرته وسرعة بديهته، كما عرف عنه جديته وانصرافه في طفولته عن اللعب وعما ينشغل به أقرانه عادة. يقول عنه الحافظ البزار -وهو من تلامذته- إنه “كان من صغره حريصا على الطلب، مجدا في التحصيل والدأب”.
ومما يروى عن تقي الدين الطفل أنه كلما توجه إلى الكتّاب للدراسة كان يعترضه يهودي يسكن في طريقه، فيسأله في مسائل، وكان يجيبه عنها سريعا، ولم يكن يكتفي بالجواب، بل في كل مرة يسعى لإقناع اليهودي ببطلان العقيدة التي هو عليها، فلم يلبث أن أسلم على يديه.
كان لنشأة ابن تيمية في دمشق -معدنِ العلماء وعُشِّهم كما وصفها محمد أبو زهرة أحد مؤرخي سيرته- أثر بالغ في تكوينه العلمي، فقد كانت فيها مدارس للفقه الحنفي والشافعي والحنبلي، وكان فيها أكابر علماء العصر الذي سبق وجود ابن تيمية فيها، كالعز بن عبد السلام (ت: 660هـ)، والنووي (ت: 676هـ)، وابن دقيق العيد (ت: 702هـ)، وغيرهم ممن لهم حلقات وتلاميذ يعلمونهم الفقه فيوازنون بين آرائه، مما أسفر عن نتاج واسع من التصانيف الموسوعية فيما عرف بالفقه المقارن، ككتاب المجموع في الفقه الشافعي للنووي، والمغني في الفقه الحنبلي لابن قدامة (ت: 620هـ).
وكانوا يدرسون الحديث إلى جانب الفقه، مما أثرى المكتبة المختصة بأحاديث الأحكام، وقد كانت مجالس العقائد والمنطق والفلسفة قائمة لمن أمّها من الطلاب، الأمر الذي جعل من دمشق المدينة الموائمة لمواهب الطفل الموصوف بالذكاء والشغف العلمي، أحمد بن تيمية.
تحقق لابن تيمية بهذين العاملين -ملازمة أبيه، ونشأته في دمشق- ما كان يصبو إليه طلاب العلم ومحبوه، فقرأ القرآن صغيرا على أبيه وسمع منه ومن غيره دواوين الحديث الكبرى، كمسند ابن حنبل وصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وغيرها، وقد روي أنه حفظ كتاب الجمع بين الصحيحين للحُميدي وهو صغير لم يبلغ الحلم.
ولأن أسرة ابن تيمية عريقة في تمذهبها على فقه الإمام أحمد بن حنبل (ت: 241هـ)، فقد كان لشيخ الإسلام -كما عرف فيما بعد- اهتمام خاص بالفقه الحنبلي تمذهبا ودراسة وتدريسا.
ولم تقتصر همة ابن تيمية على علوم الدين وحدها، فقد شغف بالعربية حتى عرف بمخالفته الناقدة لبعض ما انتهى إليه سيبويه (ت: 180هـ)، إضافة إلى غوص عميق في المنطق والفلسفة، وليس أدل على ذلك من نتاجه العلمي الخاص بهذين الفنين، ككتاب “نقض المنطق” وكتاب “الرد على المنطقيين”، وغيرهما من الرسائل في الرد على الفلاسفة وتفنيد حججهم وآرائهم.
وصفه الإمام الذهبي بأنه “فرد الزمان وبحر العلوم ولم يبلغ أحد في عصره رتبته”، ومما اشتهر في عصره أن “كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث”، وقال عنه الزملكاني “لم أرَ منذ 500 سنة أحفظ منه”.
وقد ذكر ابن عبد الهادي (ت: 744هـ) في العقود الدرية أن ابن تيمية كان لا يلوي إلى غير المطالعة فلا تروى نفسه منها، ولا تمل من الاشتغال (بالعلم) ولا تكل من البحث. ولهذا السبب ولغيره كالجهاد الذي شغله سنوات طويلة، والسجن الذي دخله عددا من المرات، وللهم الذي شغله طوال عمره، لم يتزوج ابن تيمية ولم يتسرّ، أي: لم يتخذ سرية من الإماء.
يتفق مترجمو سيرة ابن تيمية على أن أهم عوامل موسوعيته كانت ذكاءه الشديد وشغفه الكبير بالعلم والتعلم، ولذلك فقد تصدّر للفتوى في سن التاسعة عشرة، وألّف وصنف قبل أن يبلغ العشرين، وتولى حلقة الدرس في جامع دمشق الكبير خلفا لوالده الذي توفي وهو في الثانية والعشرين.
وانعقد درسه الأول في 2 محرم 683هـ، وحضره لفيف من أعلام دمشق وعلمائها لشهود ترسيمه مفتيا وواعظا ومعلما. وفي صفَر من العام نفسه بدأ تفسير القرآن الكريم على منبر خاص بعد صلاة الجمعة في المسجد الكبير بدمشق، وظل هذا الدرس مستمرا سنوات طويلة.
أثارت دروسه دويا كبيرا في أوساط العلماء والعامة، ولفتت الأنظار إليه، وانقسم الناس بشأنه إلى محبين شايعوه وأيدوه، وآخرين قاوموه وفارقوه، بل من هذا الفريق من كفّره، وبين هؤلاء وأولئك كانت طائفة ثالثة ترى فيه مجتهدا يخطئ ويصيب.
وقد وصفه الذهبي بقوله “إنه بشر من البشر، تعتريه حدة في البحث، وغضب وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس”.
وقد كان ما وصفه الذهبي واقعا صبغ حياة ابن تيمية العملية من أول يوم تصدى فيه للإجابة عن أسئلة الناس وحاجاتهم المعرفية.
فحين سأله أهل حماة عن الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في القرآن، فأجابهم في “الرسالة الحموية” وفق منهجه الحنبلي في فهم الصفات، وبما يخالف منهج الأشاعرة الذين كانوا أغلب الناس في دمشق، الأمر الذي أثار حنقهم، فرفعوا شكاتهم إلى القضاة والحكام يسألونهم الردّ على ابن تيمية ومقاضاته للعودة عن رأيه إلى رأيهم.
وكان كثير من مصنفاته استجابة لوقائع حصلت في بيئته العلمية والمجتمعية، ولذا جاءت رسائله منسوبة إلى البلدان التي سأله أهلها عن مسائل في العلم أو السياسة أو المجتمع، وكان لهذا الأمر أثره في المحن التي تعرض إليها ابن تيمية جراء الاحتكاك المباشر مع فئات مجتمعية أو علمية لها شأن أو اتصال بالسلطان.
وفي عام 699هـ، وصل التتار إلى أعتاب الشام وهزموا عساكر الناصر بن قلاوون (ت: 741هـ)، وولى جنده الأدبار، وفر كثير من أعيان دمشق إلى مصر، ولم يبق في المدينة إلا ابن تيمية مع نفر قليل من أصحابه اتفقوا على ضبط الأمور فيها.
وذهب على رأس وفد منهم يخاطب ملك التتار في وقف الدخول إلى دمشق، وقد استجاب الملك لذلك. وظل ينادي في الناس بالجهاد عاما كاملا حتى استنفر السلاطين والأعيان والعامة لمواجهة التتار الذين آثروا الانسحاب وترك المواجهة، حتى حدثت موقعة شقحب في رمضان 702هـ التي وقف فيها ابن تيمية مقاتلا ومحرضا الجند والعامة حتى تحقق لهم النصر.
وكان لهذه الحادثة أثر كبير في تعظيم ابن تيمية في نفوس الناس، فصار الملك غير المتوج، والمستشار المؤتمن والمرجع الموثوق للحكام والمحكومين.
وكما كان لاحتكاكه المباشر مع رؤوس الفرق والجماعات -كالشيعة والاتحادية والحلولية- أثر في تأليب ذوي المصالح عليه، فإن تلك المنزلة التي نالها بالوقوف في وجه التتار أثارت حنق الحانقين وحسدهم، فزج به في السجن مرات، كان أولها في مصر سنة 705هـ وقد مكث فيه عاما كاملا.
ودخل السجن ثانية سنة 707هـ، على إثر مناقشة مع الصوفية، غير أنه لم يمكث فيه سوى شهور قليلة. ثم تعرض للنفي إلى الإسكندرية للتخفيف من حدة الصراع بينه وبينهم.
وبعد عودته إلى دمشق، عاد إلى الإفتاء والتدريس والبحث، فقاده نظره إلى فتوى كانت سببا لتعرضه للمحنة مرة أخرى على يد مخالفيه، وكان قد أفتى بأن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاق، وأنه يختلف عن تعليق الطلاق الذي قصد به وقوع الطلاق عند وقوع الأمر المعلق عليه.
وهو الأمر الذي يخالف ما عليه أئمة المذاهب الأربعة، فاستنكر الفقهاء عليه، وألبوا عليه السلطان فأمره بالامتناع عن الفتوى، وهو ما لم يلتزم به ابن تيمية، فأمر به فحبس سنة 720هـ وظل عاما آخر وراء القضبان في سجن القلعة بدمشق.
وسجن القلعة هذا هو السجن الذي شهد نهاية ابن تيمية بين جدرانه؛ حيث إن خصومه ما فتئوا يبحثون في أمر يحدّ من نفوذه المعنوي بين الناس وأثره الكبير على العامة، فكان أن حرّكوا الأمراء من جديد في فتوى كان قد أفتاها سنة 709هـ (أي قبل 17 سنة من تاريخ ذلك التأليب)، فأدخل السجن سنة 726هـ ومنع من الكتابة والقراءة حتى توفاه الله سنة 728هـ.
مصنفات ابن تيمية تربو على 300 عنوان، ما بين رسائل مختصرة ومتون مركزة وكتب ذوات مجلدات ضخمة.
وكان من أوائل مؤلفاته المؤثرة: “الصارم المسلول على شاتم الرسول”، ألفه في دمشق سنة 693هـ، وذلك بعد حادثة وقعت من قبل أحد أصحاب النفوذ الذين أجازوا كتابيا شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ألف في هذه الفترة “الرسالة الحموية الكبرى” في مسألة الصفات، وكذلك “العقيدة الواسطية”، وله كذلك “الفتاوى المصرية”، وكان قد صنفه في الفترة التي قضاها في مصر بعد 705هـ، و”الشرح على العقيدة الأصفهانية”، و”الرد على المنطقيين”، و”السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”.
ومن بين أهم كتبه وأكبرها، “الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح”، في 7 مجلدات ضخام، و”منهاج السنة” في 9 مجلدات، وكتاب “درء تعارض العقل والنقل” في 11 مجلدا كبيرا.
أما كتابه الكبير الموسوم بـ”مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية” فليس من تصنيفه، وإنما هو من جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي (ت: 1392هـ) وهو من مشايخ نجد، عني بتراث ابن تيمية، فقصد إلى جمعه وترتيبه وإخراجه، وقد طبع في 37 مجلدا، والكتاب جمع لفتاوى الشيخ ورسائله، وفيه من كتبه التي أخرجت منفردة.
وتتسم مصنفات ابن تيمية بالوضوح وكثرة الاستشهاد بالقرآن والآثار النبوية وما نقل عن الصحابة والتابعين، كما أن فيها استطرادا واسعا حين يتكلم في العقائد والفقه، فتراه يعرج في قضية عقدية على حديث يستطرد في شرحه والتعليق عليه، ليخرج منه إلى مسألة أصولية، ثم يعود أدراجه إلى القضية موضوع البحث.
ومن المؤلفات الأخرى التي كتبها ابن تيمية:
الاستقامة.
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم.
بيان تلبيس الجهمية.
الصفدية.
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية.
النبوات.
توفي ابن تيمية في 20 شوال 728هـ/1328م في سجن القلعة بدمشق، بعد مرض لم يمهله أكثر من بضعة وعشرين يوما، وكان قد مضى على حبسه نحو من 5 أشهر قضاها ممنوعا من كتبه ودفاتره.