فشل الديموقراطيات في الوطن العربي بعد ثورات الربيع (تحليل)
مع بدايات ما يسمى “الربيع العربي” نهاية 2010 وأوائل 2011 في تونس ثم مصر وبعدها ليبيا قبل أن يصل إلى اليمن وسوريا، اتجهت أنظار الفئات “الساخطة” حول العالم لهذه الثورات كملهمة لهم للتغيير؛ في الصين حيث دعا ناشطون إلى “ثورة ياسمين” تيمّنا بمسمى “الثورة التونسية”، وفي سنغافورة أيضا التي تعد من بين أكثر الدول استقرارا في جنوب شرقي آسيا.
ملايين العرب في خمس دول خرجوا إلى الشوارع نهايات عام 2010 وبدايات عام 2011 بدءا من تونس مرورا بمصر ثم ليبيا واليمن وأخيرا سوريا مطالبين بإسقاط الأنظمة “الاستبدادية” والدخول في مسار ديمقراطي لتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع في ما اعتُبر إيذانًا بنهاية النظام الشرق أوسطي ورسم معالم شرق أوسط جديد ترسمه هذه المرة الشعوب وليس الدول العظمى.
لم تأت “ثورات” الربيع العربي من العدم، إنما كانت نتاجا طبيعيا لتغيرات شهدها العالم في جوانب الركود الاقتصادي وتراجع المستوى المعيشي، وإقليميا في جوانب انعدام الحريات السياسية وإفراط آلة القمع للأنظمة الاستبدادية ضد شعوبها.
في مقابل ذلك، بات الفضاء السياسي العربي عموما أشبه بحالة موحدة بعد الانفتاح المعرفي وسهولة التواصل عبر وسائط التواصل الاجتماعي وإمكانات الحشد الشعبي في دوائر واسعة بأوقات قياسية، سمحت بانتشار الحركات الاحتجاجية من تونس إلى مصر ودول أخرى.
إلا أن عوامل محلية وخارجية حولّت “ثورات” الربيع العربي إلى حروب أهلية داخلية نجت منها تونس ومصر بينما غرقت فيها كل من سوريا واليمن وليبيا، وهي دول لا تزال تعاني من نزاعات داخلية مسلحة لا يبدو أنها ستخرج منها في المدى المنظور.
ولم تسفر “الثورات” عن ديمقراطيات جديدة ناجحة وفقا للمعايير المتعارف عليها، إنما يمكن القول، نجحت في تونس إلى حد ما، بينما التف عليها “انقلاب” شبه عسكري في مصر، وانزلقت كل من ليبيا واليمن وسوريا إلى دائرة النزاع الداخلي المسلح الذي لا يخلو من حروب “الإنابة” عن أطراف إقليمية ودولية في الدول الثلاث.
لقد خلقت الدول الخليجية واقعا جديدا في المنطقة عبّر عنه الانقسام بينها بين مؤيد وداعم للثورات وقوى الإسلام السياسي التي تصدرت مشهدها العام، مثل قطر، ومتخوف منها، مثل السعودية، ومناهض لها وداعم للقوى المعروفة باسم “الثورات المضادة”، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة.
في مشهد ما بعد “ثورات” الربيع العربي وما أنتجته من نظام إقليمي جديد سواء على صعيد البناء السياسي، أو على صعيد الوعي الجمعي، أو على صعيد إعادة رسم تحالفات القوى المحلية في المنطقة وعلاقاتها بالقوى الإقليمية والدولية التي انخرطت بشكل مباشر في عدد من دول “الثورات”، سوريا وليبيا واليمن.
تلعب التدخلات الخارجية دورًا كبيرا في قيادة الدول إلى الفوضى والانقسامات والنزاعات الداخلية التي أدت إلى انزلاق، ليبيا على سبيل المثال، إلى حرب أهلية داخلية بعد فشل الفرقاء في بناء عملية سياسية متوازنة في أعقاب إسقاط نظام القذافي، وتعدد الأطراف المحلية الطامحة إلى الاستحواذ على السلطة مع دعم خارجي لهذا الطرف ضد ذاك الطرف.
في بلدان “ثورات” الربيع العربي الخمسة، كانت التدخلات الإقليمية والدولية عامل حسم إما في الانزلاق إلى حروب ونزاعات داخلية مسلحة، أو إزاحة “الثورات” بعيدا عن غاياتها التي قامت من أجلها.
ففي تونس، لعب العامل الخارجي دورا في ما يمكن توصيفه بـ “شبه انقلاب” قاده النظام القديم مدعوما من الإمارات بالمقام الأول على نظام الإسلام السياسي الذي تقوده حركة النهضة، الفرع التونسي لجماعة الإخوان المسلمين، والتي شاب فترة حكمها حالة من عدم الاستقرار تمثل في اغتيال قيادات “علمانية” عارضت نظام الحكم القائم (شكري بلعيد ومحمد إبراهيمي)، وتراجع في المستوى المعيشي والفشل في المصادقة على الدستور بانتهاء ولاية البرلمان الأولى بعد الثورة.
وفي ليبيا، أدت “الثورة” الليبية بعد ثماني سنوات مرت عليها إلى تحويل الدولة الليبية إلى دولة “فاشلة” وفق المعايير الدولية، مع حالة من الانقسامات الاجتماعية في مجتمع مبني على أساس التماسك “القبلي”.
دعمت مصر والإمارات قوات الكرامة بقيادة اللواء خليفة حفتر ضد قوات مجالس الشورى التي تمثل حركات الإسلام السياسي المدعوم من تركيا وقطر.
ولم تظهر التداعيات “المدمرة” للعامل الخارجي إلا بعد مرور سنوات من الحرب الأهلية التي تقترب فيها ليبيا اليوم من توصيف “الدولة الفاشلة”.
أما في سوريا حاولت الأطراف العربية تكرار الحالة الليبية في التدخل إلى جانب القوى المناهضة للنظام السوري كفرصة متاحة لتخليص سوريا من الهيمنة الإيرانية وإعادة التوازن الإقليمي لصالح العرب بعد سنوات من رجحان كفته لصالح إيران.
إلا أن الأطراف العربية أدركت أن تكرار الحالة الليبية في سوريا ليس بتلك السهولة بعد الفشل في انتزاع قرار من مجلس الأمن الدولي بالتدخل العسكري لإسقاط النظام، ما دفع نحو دعم القوى المناهضة للنظام وتسليحها لقتال قوات النظام وإسقاطه.
وأدت التدخلات الخارجية في سوريا إلى حرب أهلية أسفرت عن مقتل مئات الآلاف ودمار واسع في معظم المدن السورية، إضافة إلى تحويل البلد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي مفتوح لتصفية الحسابات وتحقيق المكاسب وتعزيز النفوذ.
وفي مصر التي نجت إلى حد ما من النزاع الداخلي المسلح، أطاح الدعم الخارجي، السعودي والإماراتي بالدرجة الأولى والإسناد من بعض الدول الأوروبية، بنظام الرئيس السابق محمد مرسي الممثل للإسلام السياسي المدعوم من قطر.
وفي اليمن، أدت “الثورة” اليمنية لأسوأ أزمة إنسانية متفاقمة في المنطقة والعالم منذ عقود تاركة ما لا يقل عن 8 ملايين شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة لإخراجهم من دائرة الموت جوعا.
قد تبدو الحالة اليمنية لا تسمح بتغيرات جذرية في مجمل النظام السياسي إلى حد الإطاحة الكاملة بالنظام القديم نظرا لخصوصيتها المختلفة عن حالات أخرى، سوريا وليبيا، كبلدان شهدت صراعات مسلحة جراء موجة “الربيع العربي”.
تعاني اليمن أصلا من هشاشة في بناء الدولة الذي اعتمد على الأخذ بالحسبان طبيعة التركيبة الاجتماعية، القبلية والطائفية، وصعوبة تقويض مراكز النفوذ القبلي أو الطائفي.
“قد” ينظر إلى حالتي تونس ومصر على أنها ردود أفعال على حركات الإسلام السياسي من القوى العلمانية في تونس، وهي قوى غالبة في الشارع التونسي، وقوى “الدولة العميقة” في مصر التي تمثلها قيادات الجيش التي لاقت دعما من “العلمانيين” لحركتهم “الانقلابية” وتجييش الشارع المصري بين 30 حزيران/ يونيو و3 تموز/ يوليو 2013.
ولا تزال مصر تعاني من تداعيات “الحركة الانقلابية” في 30 حزيران/ يونيو 2013 بمزيد من قمع الحريات والفشل السياسي وتراجع المستوى المعيشي ونحو ذلك من الحالات والظواهر الباعثة للاستياء الشعبي العام، مع استمرار الحرب على التنظيمات المتطرفة في شبه جزيرة سيناء التي يسود اعتقاد على نطاق واسع باستغلالها من قبل السلطات لتصفية الحسابات مع الخصوم.
خلق اتساع رقعة الحركات الاحتجاجية عام 2011 قناعة في دول عدة، الأردن والمغرب والدول الخليجية وموريتانيا والسودان وغيرها، بأن شرارة الاحتجاجات يمكن أن تنتقل إلى دولهم بأي لحظة.
التخوفات الأمنية الداخلية لتلك الدول، الغنية منها، تفسر إلى حد ما الاتجاه نحو دعم اقتصاديات الدول التي بدأت تظهر فيها بوادر الحركة الاحتجاجية، مثل سلطنة عمان التي تلقت مساعدات اقتصادية عاجلة من قطر والسعودية وآسيا، تغييرات داخلية تعزز تماسك السلطة، كما في الحالة السعودية وتعيين محمد بن سلمان وزيرا للدفاع ومناصب حيوية أخرى أتاحت له آسيا تحولات جذرية في القطاع الاقتصادي والانفتاح الاجتماعي ودورًا خارجيًا أوسع في الصراعات الإقليمية.
إن حصيلة ثماني سنوات من “ثورات” الربيع العربي أظهرت أن عموم منطقة الشرق الأوسط، تعاني من حالة تقترب في عدد من دوله بالدول “الفاشلة”، دول “الثورات الخمس” بشكل خاص، التي تعاني من أزمات عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الأمنية وغياب أو تغييب الآليات الديموقراطية الحقيقية في انتقال السلطات بفعل عامل التدخلات الخارجية أكثر منه بفعل العوامل الداخلية أو المحلية.