ماذا تعرف عن الرجل الذي تخافه الدول تاجر الديون وأخطر مستثمر في العالم
ماذا تعرف عن الرجل الذي تخافه الدول تاجر الديون وأخطر مستثمر في العالم
“أنا لست هنا للتفاوض … إما أن تقوم حكومة بيرو بدفع القيمة الكاملة للسندات التي اشتريناها منها أو سنمضي قدماً في مقاضاتها.”
وردت العبارة السابقة على لسان الملياردير الأمريكي “بول سينجر” خلال جلسة استماع عقدتها محكمة أمريكية أثناء نظرها دعوى قضائية رفعت من جانبه ضد البلد الفقير قبل 20 عاماً. وكان هذا التصريح بمثابة إقرار جريء من “سينجر” ويعد اعترافاً منه بتكتيكاته غير النظيفة
لطالما اعتبِر “سينجر” على أنه المستثمر النشط الأكثر خشية في العالم من قبل صناديق التحوط والشركات المنافسة وحتى بعض البلدان.
ما يجب أن نعرفه قبل قصة سينجر… كيف تستدين الدول؟
تستدين الدول بطريقتين، أولاهما هي الدين التقليدي المباشر (أن تسحب قرض من صندوق النقد الدولي مثلًا)، والأسلوب الثاني هو عن طريق بيع سندات الديون الحكومية.
سندات الديون الحكومية هي عبارة عن أصول مالية يحصل عليها أحد المستثمرين من حكومة بلدٍ ما لقاء دفع مبلغ مالي كاش لهذا البلد، ويسترد المستثمر قيمة هذا السند بعد فترة معينة تسمى تاريخ الاستحقاق.
والنقطة الهامة التي يتوجب الإشارة إليها هنا أن المستثمر يسترد القيمة الأصلية لهذا السند، لكنه لا يشتريه بقيمته الأصلية (على سبيل المثال: يشتري السند من الدولة بـ 950 دولار ويسترد قيمته 1000 دولار بعد عام).
بالنسبة للدول المتقدمة فإن الفرق بين سعر بيع السند وسعر السداد يكون ضئيلًا، لأن سداد ثمن السند مضمون؛ وعلى العكس من ذلك بالنسبة للدول التي تعيش أزمات اقتصادية أو قابعة في الفقر.
اللعبة التي كان يبرع سينجر في فعلها:
كان “سينجر” يتصيد سندات الدول الفقيرة والتي لن تقدر على السداد؛ وأحيانًا كان يخدع تلك الدول من أجل أن تبيعه سنداتها بدون أن تعرف بأنه وراء المؤامرة.
على أي حال، فحين يتعلق الأمر بسندات ديون لبلدان فقيرة عاجزة عن السداد فما أسهل الحصول على مستثمر يرغب بالتخلص منها، وما أسهل الحصول على دولة تتعطش للسيولة مستعدة لبيع سنداتها وهي تعرف أنها لن تقدر على دفعهم!
السؤال الذي لا بد أنه دار في ذهنكم عند هذه النقطة: ما الذي سيفعله “سينجر” بسندات رديئة لديون لا ينوي أحد سدادها… هل هو مجنون؟
في الواقع كان “سينجر” الملقب بـ “النسر” و “مصاص الدماء” يدرك ذلك جيدًا، لكن عمله كان يتمحور حول إذلال هذه الدول بشتى الطرق، وملاحقتها في المحاكم وفي كل أرجاء العالم ليجعلها تسدد قيمة السند كاملة، بل ومع فوائد التأخر كذلك.
لم يكن “سينجر” ليتردد برفع دعوة لحجز سفينة حربية أو سفينة سلع أو حتى طائرة الرئيس الخاصة، لأي دولة يمتلك سندات ديونها وترفض الدفع له. باختصار كان محترفًا في إذلال الدول الفقيرة وملاحقتها في المحاكم الدولية والتضييق عليها وعزلها حتى يحصل على أمواله.
الضحية الأولى… دفعت وهي مرغمة:
في عام 1996، قامت حكومة بيرو بالاتفاق مع 90% من حاملي ديونها التي تخلفت عن سدادها في عام 1984 على مبادلة تلك الديون بأخرى جديدة، سيتم بيعها لهم بخصم يقترب من 50% على قيمتها الاسمية. وقام صندوق “إليوت مانجمينت” التابع لـ “سينجر” بشراء سندات قيمتها الاسمية تبلغ 20 مليون دولار مقابل 11.4 مليون دولار فقط.
بمجرد أن قام بشرائها، بدأ “سينجر” معركة قانونية طويلة لإجبار حكومة بيرو على تسديد القيمة الكاملة لحيازاته من سنداتها السيادية. وفي عام 1998، وصلت القضية إلى المحكمة الفيدرالية بمانهاتن في ولاية نيويورك.
لكن هيئة الدفاع الخاصة بحكومة “بيرو” نجحت في إقناع القاضي الأمريكي بأن صندوق “إليوت مانجمينت” الذي يديره “سينجر” لم يشتر هذه السندات بغرض الاستثمار، وكانت هناك نية مبيتة لدى إدارته برفع دعاوى قضائية ضد بلدهم بغرض إجبارهم على الدفع أو إعلان الإفلاس.
وحين قام القاضي بفحص ماضي ذراع “سينجر” اليمنى “جاي نيومان” اكتشف أن لديه تاريخا طويلًا من المعارك القضائية التي رفعها ضد دول كان قد قام بشراء ديونها السيادية، وأنه خلال كل هذه المعارك كان يرفض أي حل وسط أو أي عملية إعادة هيكلة، وهو ما ينتهك قانون “تشامبرتي”.
تم رفض الدعوى المرفوعة من قبل سينجر، وقالت المحكمة في حيثيات الحكم: “إن صندوق إليوت اشترى الديون بنية وغرض مقاضاة حكومة بيرو… وإن هذه النية يمكن اكتشافها من خلال النظر إلى استراتيجية الاستثمار الخاصة بالصندوق وتاريخ القائمين على إدارته.”
لكن لم يستسلم “سينجر” وقام بالاستئناف ضد الحكم. وفي عام 2000 ألغت محكمة الاستئناف الحكم السابق مشيرة إلى أن قانون “تشامبرتي” لا ينطبق على هذه القضية. وهكذا وجدت حكومة بيرو نفسها مضطرة للدفع لـ “سينجر” أو إعلان إفلاسها.
أجبر “سينجر” بيرو على الدفع في الحال بعد أن قام برفع دعوى قضائية أخرى ضدها في بروكسل بغرض منعها من دفع ولو كان دولارًا واحدا إلى أي من حاملي سنداتها قبل أن تقوم بسداد مديونيتها له، وهي الخطوة التي هددت بمنع وصول بيرو إلى أسواق رأس المال الدولية والحيلولة دون اقتراضها للمال.
ولهذا قامت بيرو مجبرة بدفع ما يمكن وصفها بالفدية والتي بلغت حوالي 58 مليون دولار (القيمة الاسمية بالإضافة إلى الفوائد) إلى “سينجر” عن السندات التي كان اشتراها منها قبل 4 أعوام فقط مقابل 11.4 مليون دولار، ليحقق الملياردير الأمريكي ربحاً يزيد على 400% على استثماره الأصلي.
الضربة الكبرى عند الأرجنتين:
شكل الانتصار الذي حققه “سينجر” على دولة بيرو سابقة عالمية كان لها تداعيات كبيرة. فلأول مرة شاهد العالم كيف يمكن لمستثمر أجنبي غني أن يتحكم في مصير بلد بالكامل وفي قدرته على اقتراض الأموال.
بعد نجاح استراتيجيته الاستثمارية مع الديون السيادية لدولة بيرو، قرر “سينجر” الدخول في رهان أكبر بكثير وشراء 600 مليون دولار من الديون السيادية للأرجنتين التي كانت تمر بأزمة اقتصادية حادة مقابل 100 مليون دولار فقط.
لكن بسبب السمعة السيئة التي جناها خلال صراعه مع بيرو، تعمد “سينجر” إخفاء هويته حين حاول شراء ديون الأرجنتين في بداية الألفية الثالثة، لأنه توقع أن اسم صندوقه سيثير خوف مسؤولي الحكومة الأرجنتينية وقد يتسبب في إثارة الجماهير، وهو ما سيحول دون شرائه لتلك السندات.
في عملية تمويه معقدة قام “سينجر” بشراء السندات الأرجنتينية من خلال شركة تابعة لصندوقه تسمى “إن إم إل كابيتال ليميتد”. وفي ذلك الوقت لم يكتشف أحد هوية أصحاب هذه الشركة حيث لم يكن الاسم مألوفاً. ولمدة اقتربت من عام ونصف العام ظلت هوية “سينجر” متخفية.
لكن بحلول عام 2005، شك محامو الحكومة الأرجنتينية في القضية المرفوعة ضدها من قبل “إن إم إل” أن “سينجر” هو من يقف وراء هذه القضية، نظراً لأن الحجج القانونية المساقة ضد الأرجنتين هي نفسها التي تم استخدامها مع بيرو قبل سنوات.
في إحدى جلسات الاستماع التي تم عقدها على هامش هذه القضية قام محامو الحكومة الأرجنتينية بذكر اسم صندوق التحوط الأمريكي لأول مرة في القضية، وهو ما أغضب محامي “سينجر”. رغب الأرجنتينيون في استغلال السمعة السيئة التي يحظى بها الصندوق ومديره لصالحهم في القضية.
في خضم ذلك الصراع، حاول “سينجر” الاستيلاء على احتياطيات البنك المركزي الأرجنتيني وأصول صندوق المعاشات الحكومية ومحطة لإطلاق الأقمار الاصطناعية في ولاية كاليفورنيا مملوكة للحكومة الأرجنتينية. وهكذا أصبح “سينجر” أكثر رجل في العالم يكرهه الأرجنتينيون.
ولكن في نهاية المعركة القانونية التي استمرت لما يقرب من 14 عاماً انتصر “سينجر” على الأرجنتين، وأجبرها على سداد ما يقرب من 2.4 مليار دولار عن السندات التي لم يدفع فيها أكثر من 100 مليون دولار، محققاً ربحاً يقترب من 1270%.
ثم اتبع “سينجر” نفس الاستراتيجية مع جمهورية الكونغو، وهي دولة فقيرة دمرتها الحرب الأهلية في أواخر التسعينيات، ولا يزال نصف سكانها يفتقرون إلى مياه الشرب النظيفة، على الرغم من أن البلاد تنتج حوالي 260 ألف برميل من النفط يومياً.
كيف يدافع مصاص دماء الدول الفقيرة عن نفسه؟
يقول “سينجر” في معرض دفاعه عن نفسه وعن أضرار نهجه الاستثماري التي تطال مواطني الدول المستدينة:” إن الفقراء في البلدان النامية فقراء لأن الأنظمة السياسية والاقتصادية في بلادهم قد خذلتهم”. أما تعليقه الأكثر طرافة والذي سنختم به هذا التقرير هو قوله: “كل دول العالم لديها فقراء، حتى الولايات المتحدة يوجد بها فقراء.”