النتيجة التي حققها أردوغان تُعدُّ ضربًا من المستحيلات السياسية

أردوغان: الرقم المستحيل

أردوغان: الرقم المستحيل
أ. د. هيثم خزنة – جامعة إسطنبول صباح الدين زعيم – تركيا عاجل

إن النتيجة التي حققها أردوغان تُعدُّ ضربًا من المستحيلات السياسية، ولا يمكن إدراك هذه الحقيقة إلا بقراءة متأنية للمعطيات التي سأوردها:

اجتمع خصوم أردوغان بأعداد تصوّر كثيرون أنها أكبر من أعداد أنصاره، رغم أن أكثر هؤلاء الخصوم أعداءٌ تقليديون فيما بينهم، فهم من انتماءات مختلفة متصارعة، وهم على النحو الآتي:

1. العلمانيون ويمثلهم حزب الشعب الجمهوري CHP (168 مقعدا في البرلمان الحالي) وهؤلاء لهم امتداد تاريخي قوي جدا في بعض مناطق إسطنبول وبعض المدن الأخرى كمدينة أزمير (63% من أصواتها لصالح كليتشدار أوغلو).

2. الأكراد القوميون ذوو النزعة الانفصالية، ويمثلهم حزب اليسار الأخضر (62 مقعدا في البرلمان الحالي) وهو البديل السياسي لحزب الشعوب الديمقراطي بسبب منع الأخير من المشاركة بالانتخابات بسبب علاقته بحزب العمال الكردستاني المناهض للدولة التركية بقوة السلاح، وهؤلاء -الانفصاليون الأكراد- على عداء تاريخي ممتد مع حزب الشعب الجمهوري CHP، في زمن حكم CHP الممتد لأكثر من 70 سنة، حيث سعى CHP حينها إلى محو الهوية والقومية الكردية بكل الطرق والسبل، واستعمل أقصى وسائل القمع وحشية، فلم يتورع حتى عن سفك الدماء عقودا طويلة، فضلا عن الإهمال الشديد لمناطقهم ومدنهم، فأوقعهم في فقر مدقع استمر إلى نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، ولم يتخلص الأكراد من هذه الحالة إلا بعد مجيء حزب العدالة والتنمية.

ورغم كل هذا، فقد وقف القوميون الانفصاليون الأكراد مع كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري CHP، وصوتوا له بنسب عالية جدا تفوق الخيال في المدن ذات الثقل الكردي القومي الخالص، وعلى رأسها مدينة ديار بكر 72%، وباتمان 67%، وهكّاري 72%، وشرناق 76%، وفان 62%، فهذه أرقام كانت لصالح كليتشدار أوغلو، وقد أذهلت كل سياسي يعايش الواقع التركي.

3. القوميون الأتراك، انقسم هؤلاء إلى ثلاثة أقسام رئيسة: نصفهم تقريبا مع حليف أردوغان الأكبر دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية (51 مقعدا في البرلمان الحالي)، أما النصف الآخر فهم معارضون لأردوغان، ويمثل أغلب النصف الثاني ميرال أكشينار رئيسة الحزب الجيد (44 مقعدا في البرلمان الحالي) ، بالإضافة إلى بعض غلاة القومية التركية مثل سنان أوغان الذي حصل على ما يقارب 5% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية.

مع ملاحظة أن أكبر ما يجمع القوميين الأتراك عداؤهم لكل قومية غير تركية وعلى رأسها القومية الكردية الانفصالية، ومع ذلك تحالف ما يقارب من نصف القوميين الأتراك (حزب الجيد برئاسة ميرال أكشنار) مع أشد غلاة القومية الكردية (حزب الشعوب الديمقراطي الذراع السياسي غير المعلن لحزب العمال الكردستاني المناهض بقوة السلاح للدولة التركية).

4. الإسلاميون، جُلُّهم مع أردوغان، لكن بعضهم وقف مع التحالف المعارض ودخلوا الانتخابات تحت قوائم حزب CHP، أكبرهم حزب السعادة ورئيسه تمل كاراملا أوغلو (10 مقاعد في البرلمان الحالي هي من ضمن حصة CHP) فضلا عن أحمد داود أوغلو رئيس حزب المستقبل، وعلي بابا جان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم، أما إسلاميو الأكراد وعلى رأسهم حزب الدعوة الحرة ورئيسه زكريا يابجي أوغلو فقد كانوا حلفاء أردوغان لكن وزنهم بين الأكراد لا يتجاوز 20% في أحسن الأحوال.

فيلاحظ أن أكبر القوى السياسية التركية ممثلة بحزب الشعب الجمهوري العلماني، والقوميين الأكراد، ونصف القوميين الأتراك قد وقفوا صفًا واحدا ضد أردوغان رغم تباينهم وتناقضهم إلى حد كبير جدا، فالقوميون الأكراد لا يلتقون أيدلوجيا ولا تاريخيا مع علمانية حزب الشعب الجمهوري CHP، ولا مع القوميين الأتراك، لكن حصل ما لا يمكن تصوره، إذ تحالف هؤلاء جميعا، ويمكن القول: لولا الإملاءات الغربية على القوميين الانفصاليين الأكراد ما كان ذلك أن يحصل مطلقا، فللدول الغربية اليد العليا على قيادات القوميين الأكراد لما تقدمه لهم من دعم وتوجيه وإسناد معلوم وظاهر، خاصة أمريكا.

فكانت الأوامر الغربية بضرورة رضوخ القوميين الأكراد لحزب الشعب الجمهوري رغم تمسكه بالقومية التركية وتحالفه مع القوميين الأتراك (الحزب الجيد) ولم تعترض رئيسة الحزب ميرال أكشنار على هذا التحالف غير المعلن وهو ما يتناقض مع مبادئ الحزب.

فكان هؤلاء قوة لا يستهان بها خاصة أن القوميين الأكراد أصحاب ثقل كبير جدا في الميزان الانتخابي، ولو علمنا أن أردوغان ما كان ليفوز بالانتخابات السابقة لولا أصوات الأكراد الذين وثقوا به سابقا وقدموا له أصواتهم ليرفع عنهم الظلم الطويل، لكنه في هذه الانتخابات قد خسر الجزء الأعظم من هذه الأصوات نظرا لما وقع بينه وبين قوميي الأكراد من صراع شديد في السنوات الأخيرة بعد أن استعملتهم أمريكا لضرب الدولة التركية حينما أحدثت لهم جيبًا في سوريا، فاضطر أردوغان للصراع معهم لما في مخططاتهم من تهديد صارخ للأمن القومي للدولة التركية، وبالتالي خسر أردوغان الثقل الانتخابي الكبير الذي استند أردوغان إليه سابقا.

وقد علم الغرب وأمريكا على وجه الخصوص مقدار الضعف الذي وصل إليه أردوغان بدءا بخسارة الأكراد ثم خسارة جزء كبير من القوميين الأتراك ثم خسارة بعض الإسلاميين على قلتهم نسبيا، ثم خسارة جزء كبير من الشعب نظرا للضائقة الاقتصادية الكبيرة التي وقعت بها الدولة ثم خسارة جزء كبير من الشباب الجديد الذي لا يدرك أبعاد هذه اللعبة الدولية القذرة، فضلا عن عدم إدراكه للجهود الجبارة التي قام بها أردوغان، لكنه يطمح إلى شيء من الرفاهية.

وعليه فقد وصل الغرب إلى قناعة راسخة أن سقوط أردوغان في انتخابات 2023 شبه حتمي.

إلا أن أردوغان قد كسر هذه اللعبة القذرة وحصل على فارق كبير بينه وبين منافسه كليتشدار أوغلو قارب 2.5 مليون صوت.

ولعل من أسباب تفوق أردوغان في عدد الأصوات على التحالف المعارض رغم السخط الكبير الذي وجهه عامة الشعب لأردوغان وحزبه في سنوات حكمه الأخيرة حتى ظن الكثيرون بحتمية سقوطه، تعود إلى التحالف نفسه، إذ إن جزءًا كبيرا من الأتراك على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم واهتماماتهم قد انتبه إلى هذا التحالف الغريب غير المتلائم وغير المتجانس، وأدرك كثير من الناس أن شيئا ما يدور في الخفاء، فأحجموا عن التخلي عن أردوغان وحزبه، وأعطوه أصواتهم مجددا بعد أن كانوا مترددين بل راغبين عنه وعن حزبه، إلا أن ضعف بنية التحالف المعارض وعدم الثقة به والشك بولاء الركن الأكبر من التحالف جعلهم يحجمون عنه.

صحيح أن أردوغان لم يفز بالجولة الأولى لكنه أثبت لخصومه مجتمعين أنهم لم يقدروا على التفوق عليه في عدد الأصوات، بل فاقهم بـ 2.5 مليون صوت رغم اجتماعهم المتضاد المتناقض المستحيل لولا الإملاءات الغربية.

أما الجولة الثانية فقد أصبحت حظوظ أردوغان كبيرة جدا، لأن من صوّت لأردوغان في الجولة الأولى لن يخذله في الجولة الثانية، ومن صوت لكليتشدار أوغلو في الجولة الأولى لن يخذل كليتشدار أوغلو أيضًا، لكن قد يعيد البعض -ولو قسم ضئيل- النظر في المسألة، ففوز كليتشدار أوغلو -لا قدر الله- سيوقع البلد في أزمة سياسية حادة جدا، إذ البرلمان في يد تحالف أردوغان (322 مقعد من أصل 600) مما يجعل الرئاسة في اتجاه مناقض للبرلمان وهذا ما يخافه الناخب الراغب بكليتشدار أوغلو، إذ يجعله مترددا في التصويت لصالح كليتشدار أوغلو رغم ترجيحه له، وقد يمتنع عن التصويت تحاشيًا من وقوع البلد في تلك الأزمة.

أما من صوتوا للمرشح الرئاسي الخاسر سنان أوغان وهم 2.5 مليون صوت، فلا يتصور أن يصوتوا جميعا لكليتشدار أوغلو حتى لو طلب منهم ذلك سنان أوغان، مما يعني أن تقليص الفارق (2.5 مليون) بين الرجلين (أردوغان – كليتشدار أوغلو) صعب جدا على تحالف المعارضة.

علمًا بأن سنان أوغان قد أدرك أنه لن يتمكن من فرض شروطه على أردوغان في مقابل دعوة ناخبيه لترجيح أردوغان، لأن الأخير لا يحتاجها بشكل ضروري، فبدأ سنان بتخفيف العبارة معه، بل ربما لا يدعو ناخبيه لأي من المرشحين، فلا هو قادر على الدعوة لأردوغان إذا لم يستجب أردوغان لمطالبه، ولا هو قادر على الدعوة لكليتشدار أوغلو بسبب تحالف الأخير مع القوميين الانفصاليين الأكراد؛ لأن سنان أوغان من غلاة القومية التركية.
وعليه أصبح الطريق مفتوحا بإذن الله تعالى للرئيس رجب طيب أردوغان في الجولة الثانية، وقد بدأت الإشارات تصدر من الدول الغربية بترجيح هذه الاحتمالية.

لكن يحتاج الأمر إلى حسن تقدير الأمور وحسن إدارة الدعاية الانتخابية، فليس هذا أمرًا محسومًا، وقبل ذلك، أولا وآخرا، يجب التوجه إلى الله تعالى بحسن التوكل عليه، والثقة والارتباط به عز وجل، وصدق النية معه جل وعلا، فهو سلاح أردوغان الأقوى الذي حطَّم كل المؤامرات والخطط الداخلية والخارجية.